تشهد سوريا مرحلة دقيقة تتداخل فيها التحولات الإقليمية والدولية مع تعقيدات الأزمة الداخلية، لتشكل معًا واقعًا جديدًا يُلقي بظلاله على مختلف مكونات البلاد، وفي مقدمتها المكون الكردي. في هذا السياق، يبرز مطلب اللامركزية السياسية أو الإدارية الموسعة بوصفه خيارًا واقعيًا للحل، تطرحه القوى الكردية بإصرار، بدعم من أطراف دولية وإقليمية مؤثرة، باعتباره مدخلًا لبناء دولة سورية عادلة تتسع لجميع مكوناتها.
وقد ساهم تراجع النفوذ الإيراني في سوريا، نتيجة للضغوط الاقتصادية والعقوبات الغربية، إضافة إلى الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة، في إحداث فراغ نسبي في موازين القوى. هذا الفراغ أتاح للقوى الكردية مجالاً أوسع للمناورة السياسية وتعزيز حضورها على الأرض، بعد سنوات من الصراع مع تنظيم داعش والميليشيات المدعومة من طهران. ومع تحسن الأوضاع الأمنية نسبيًا في مناطق شمال وشرق سوريا، بات الحديث عن تطبيق نموذج إداري لا مركزي أكثر واقعية من أي وقت مضى.
ومع ذلك، لا تزال السياسات المتصلبة للنظام السوري، وتمسكه بمنظومة الحكم المركزي، تشكل العقبة الأكبر أمام أي حل سياسي شامل. رفض النظام الاعتراف بالتعددية السياسية والإدارية يعمّق من أزمة الثقة، ويدفع القوى الكردية إلى البحث عن ضمانات دولية تكفل حماية وجودها ومكتسباتها في أي تسوية مقبلة.
في هذا الإطار، شكّل مؤتمر قامشلو الأخير محطة فارقة في المسار الكردي، حيث أظهر مستوى غير مسبوق من التوافق بين القوى السياسية الكردية حول مطلب اللامركزية، مدعومًا بدور فاعل من إقليم كردستان العراق الذي ساهم في تقريب وجهات النظر. كما أن الدعم الفرنسي والأمريكي لهذا التوجه أضفى عليه غطاءً دوليًا يعزز من شرعيته ويمنحه موطئ قدم في أي مفاوضات مستقبلية.
ويُضاف إلى ذلك الدور المحوري الذي تؤديه “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في مكافحة الإرهاب، وهو ما منحها اعترافًا دوليًا وثقلاً سياسيًا، خاصة من قبل واشنطن وباريس. هذا الدور الميداني والأمني منح الكرد ورقة تفاوض قوية، تُمكنهم من طرح اللامركزية كشرط أساسي لأي تسوية سياسية شاملة.
ورغم هذا الزخم، تبقى التحديات ماثلة، وفي مقدمتها الموقف التركي المتشدد الرافض لأي شكل من أشكال التمكين الكردي في سوريا، بدعوى تهديد الأمن القومي التركي. كما أن غياب رؤية دولية واضحة لمستقبل سوريا، وتذبذب المواقف الدولية حيال النظام، يشكلان عائقين إضافيين أمام أي حل سياسي يضمن حقوق جميع الأطراف.
في المحصلة، لم يعد مطلب اللامركزية حكرًا على الكرد، بل أضحى ضرورة سياسية لاستعادة التوازن وبناء عقد اجتماعي جديد في سوريا. الدولة المركزية بصيغتها التقليدية أثبتت فشلها في إدارة التنوع، ولا يمكن إعادة بناء البلاد دون الاعتراف الدستوري بحقوق المكونات المختلفة. وإذا ما استطاعت القوى الكردية تحويل وحدتها الراهنة إلى استراتيجية تفاوضية فاعلة، بدعم إقليمي ودولي منسق، فقد تتاح فرصة تاريخية لإرساء نظام لا مركزي عادل. أما في حال استمرار التعنت وغياب التوافق، فستبقى اللامركزية مشروعًا مؤجلاً، مؤطرًا بتعقيدات المشهد الإقليمي وتشدد السلطة المركزية.